حاكمية مصرف لبنان: الأوساخ تحت السجّادة
كتب نقولا ناصيف في جريدة “الأخبار”
من حيث تُرتق تُفتق. لا يكاد يمر يوم ليست له مفاجأته وعلى طريقته في بلد معضلاته لا تنتهي ولا تُسوَّى، إلا أن أحداً لا يسعه أن يعرف سرّ أنه من دونها لا يستمر. أحدث المفاجآت قبل يومين توازي ما قبلها غرابة. عوض أن تنتشل مصرف لبنان من غرقه تشدّه أكثر إلى القعر.
رغم التهويل الذي تضمّنه بيان النواب الأربعة لحاكم مصرف لبنان، وبينهم أولهم المفترض انتقال الصلاحيات إليه بحكم القانون، ضامراً تهديداً باستقالتهم الجماعية ما لم يُعيّن حاكم يخلف رياض سلامة، أتى الجواب سريعاً في الساعات المنصرمة من حزب الله من خلال ما تردّد عن تواصل بينه وبين التيار الوطني الحر حيال المسألة هذه: لا تعيينات في مستوى المتداول في حكومة تصريف الأعمال ولا بالذات لحاكم مصرف لبنان الآن.
لم يقل النواب الأربعة في بيانهم بأنهم سيعتزلون. إلا أن العضو السنّي سليم شاهين أفصح عن فحوى التهديد. تحدّثوا ايضاً عن «المصلحة العامة» علىى طريقتهم، لا بناءً على اجتهاد القضاء الإداري المحدِّد لها معاييرها وشروطها. المصلحة العامة تلك نظّمها القانون نفسه بإحلال انتقال الصلاحيات محل الشغور والفراغ.
كان ثمة أكثر من سبب في خلال ولاية الرئيس ميشال عون، بعد انفجار الأزمة النقدية واختناق العملة الوطنية وانهيار الاقتصاد، للتفكير في حاكم يخلف سلامة، واجهة ذلك الانهيار دونما أن يكون المسؤول الوحيد عنه. لم يكن الرجل، قبل ثلاث سنوات، أضحى صاحب أسوأ سمعة مهنية وأخلاقية، ولا طاردته الدعاوى والملاحقات في الداخل والخارج، ولا أبانت التحقيقات ثرواته وشقيقه وصديقاته، ولا انتهى المطاف به مذَّاك سجين مكتبه في مصرف لبنان، قبل الوصول أخيراً إلى وضع اليد على ما يملك في فرنسا وأوروبا. كان لا يزال في منتصف ولايته وليس على أبواب الخروج.
مع ذلك فإن فكرة إقالته لتحميله المسؤولية المباشرة عما حدث، التصقت لدى حماته باتفاق مسبق مستحيل في ذلك الوقت على مَن يخلفه. مذَّاك طال السجال من حوله، إما التمسك ببقائه في منصبه بحجة عدم التفاهم على مَن يخلفه وفي الوقت نفسه عدم البحث عن أحد يخلفه، وإما من أجل أن تبقى الأوساخ تحت السجادة وهو قاعد عليها. أخيراً انتهت أو تكاد ولايته في 31 تموز. فجأة لم يعد مهماً الاتفاق على مَن يخلفه، وبات ثمة إلحاح على تعيين حاكم جديد قبل التحقق ممّن سيؤتى إلى المنصب، أي فريق يقترحه وضد أي فريق أو نكاية به؟ تأتي به طائفته أم السلطة التنفيذية؟ أم توافق المراجع المعنيين في السلطات الدستورية والواقعية في الداخل، دونما حاجة إلى وجود رئيس الجمهورية.
بعدما بَانَ في الأسابيع الماضية أن مشكلة الحاكمية رُتقت أو أوشكت بتولي النائب الأول، الشيعي، وسيم منصوري المنصب، وعُزي جانب رئيسي من زيارته لواشنطن أخيراً إلى مناقشته هناك انتقال السلطة إليه، فُتقت مجدداً الخميس ببيان نوابه الأربعة الذي صعد إلى واجهة الحدث في الأيام المتبقية في ولاية سلامة.
نواب الحاكم يريدون الاستقالة أم يستجيرون بغطاء سياسي للمرحلة الانتقالية؟
يتلازم المعطى المستجدّ وملاحظات:
أُولاها، بعض إيحاءات بيان الأربعة في حال تعذّر تعيين حاكم جديد، تمديد ولاية الحاكم الموشك على الرحيل. لا يملك مجلس الوزراء تمديد ولايته ما دامت المادة 18 في قانون النقد والتسليف تحددها بست سنوات غير منقوصة، ما يقتضي إذَّاك العودة إلى مجلس النواب لتعديل القانون ذاك بما يسمح بتمديد الولاية إلى أكثر من ست سنوات. الخيار الوحيد المتاح لمجلس الوزراء هو إعادة تعيينه بالثلثين لولاية قانونية جديدة كاملة غير مجتزأة. في ما تردّد أن سلامة طلب تمديد ولايته سنتين، فقوبل بموقف المراجع المعنيين بالموافقة على ستة أشهر فقط. كلا الخيارين متعذّر من دون تعديل قانون النقد والتسليف.
ثانيتها، اختلاف تفسير المدلول الفعلي لبيان النواب الأربعة لحاكم مصرف لبنان، بين قائل بأنهم جديون في تهديدهم ولا يريدون أن يضحوا عرضة للاستهداف عن الماضي والحاضر في آن، وبين قائل بأنهم يرومون سلفاً غطاء سياسياً بعدم التعرض إلى المرحلة الانتقالية التي ستجعلهم، في الواقع لا في النص القانوني، أقرب إلى قيادة جماعية لمصرف لبنان في غياب حاكمه وأن على رأسه النائب الأول.
ليس خافياً أن ما باتوا يطلبونه اليوم لم يكن لديهم قبلاً في مرحلة استئثار سلامة بالحقبة المنصرمة كلها، مكتفين بالامتيازات التي منحهم إياها.
ثالثتها، التباين المعلن بين طرفَي الثنائي الشيعي، الرئيس نبيه برّي والأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله. كلاهما ليسا في وارد تناقض موقفيْهما ولا حتماً الخلاف، ويمكن أن تُعزى الظلال هذه إلى مناورة أو تقاسم أدوار حتى. قال برّي إنه مع تعيين الضرورة في مجلس الوزراء في إشارة لا تقتصر على حاكمية مصرف لبنان، بل يمتد إلى رئاسة الأركان في الجيش وعضوية المجلس العسكري وربما ـ وقد يكون حتمياً ـ إلى قائد الجيش جوزف عون الذي يغادر منصبه في 10 كانون الثاني المقبل. قبل رئيس البرلمان، قال الأمين العام لحزب الله كلاماً معاكساً قاطعاً: حرّم على حكومة الرئيس نجيب ميقاتي تعيينات مهمة كهذه، وأوجد بنفسه لها المخرج الذي ارتضاه الشيعة لأنفسهم بانتقال موقّت لمنصب المدير العام للأمن العام إلى الأول الذي يخلف اللواء عباس ابراهيم وهو ماروني، ما يتيح القياس نفسه بانتقال موقّت للمنصب الماروني في الحاكمية إلى الأول الذي يخلفه وهو شيعي. تصبح المعادلة متوازنة متساوية بلا ظلم أو افتئات، ويُنظر إليها على أنها موقّتة.
رابعتها، لا متنفس لالتئام حكومة ميقاتي بلا ظهير حزب الله. مقدار حماسة رئيسها للتعيين، فإن الموقف المعلن للحزب هو رفضه تماماً. ذلك يعني، في حال الإصرار على جلسة تعيينات، تغيّبه عنها وتالياً حضور نصف الثنائي الشيعي مع غياب أساسي لمكوّن مسيحي رئيسي هم الوزراء المقاطعون في الأصل جلسات مجلس الوزراء. تمسي المشكلة مضاعفة تغيّب الحزب بمفرده، إذ لا مناص من تفسيره بأنه تواطؤ ضمني يضمر موافقة مسبقة على تعيين حاكم جديد.
خامستها، يُفسَّر الموقف السلبي في رفض تعيينات تبدأ بحاكم مصرف لبنان، إرسال حزب الله إشارات إيجابية إلى الأفرقاء المسيحيين ولا سيما خصومه الجدد وهم التيار الوطني الحر، متهيّباً مغزى تعيين حاكم فيما منصب رئاسة الجمهورية شاغر. يراد بالموقف السلبي هذا أيضاً إعادة فتح أبواب يغلقها التيار الوطني الحر في وجه حزب الله، بينما الواقع أن الحزب يسعى إلى فتح الأبواب التي يعتقد أن التيار يغلقها على نفسه: ردّ الاعتبار إلى الموقف المسيحي الحليف والوقوف إلى جانبه في معزل عن خلاف الطرفين على ترشيح سليمان فرنجيه لرئاسة الجمهورية.
بعض المغالين في قراءة موقف الحزب، أن معارضته تعيين حاكم جديد قريباً ثم معارضته تعيين قائد للجيش في مرحلة متقدّمة ما دام الشغور الرئاسي مستمراً، يراد منهما محاولة الضغط على الأميركيين أكثر المعنيين واهتماماً بالمنصبين وبمَن يشغلهما