راديو الرقيب
اقلاممقالات مختارة

مراقصة الثعابين بين الحاكميّة والرئاسة

كتب ايلي القصيفي في “أساس ميديا”

كم كانت دقيقة ومحقّة السفيرة الفرنسية آن غريو عندما وصفت الوضع في لبنان بـ”الاستقرار الخادع”. فحتّى لو تضمّن خطابها لمناسبة اليوم الوطني الفرنسي خروجاً عن معايير التخاطب الدبلوماسي، إلّا أنّها صارحت اللبنانيين أكثر من مسؤوليهم في ما يخصّ الاستقرار الوهمي الذي يعيشونه ويتأقلمون معه كما لو أنّ الأزمة العميقة التي يتخبّطون فيها يمكن مداراتها والتكيّف معها والالتفاف عليها مهما استطالت.
والحال هذه أتت أزمة حاكمية مصرف لبنان على مشارف انتهاء ولاية الحاكم الحالي رياض سلامة والتخبّط الرسمي في التعامل معها ليؤكّدا فعلاً أنّ الاستقرار الحالي استقرار خادع، وأنّ التعايش مع الفراغ الرئاسي تعايش مع الخطر.
صحيح أنّه لا يمكن توقّع أن يحلّ انتخاب رئيس جديد مشكلات لبنان كلّها، لكنّ الصحيح أيضاً أنّ البقاء بلا رئيس يشبه مراقصة الثعابين التي لا يمكن توقّع ردود فعلها. وهكذا قد تظهر التبعات الخطيرة للفراغ الرئاسي دفعة واحدة فتكشف كم أنّ انتخاب الرئيس لا يشكّل ضرورة قصوى لحلّ الأزمة ككلّ بل لمنع تفاقمها أكثر، وهذا لوحده كافٍ لتعيين عمق الأزمة.

الفيتوات الطائفيّة

الواقع أنّ عدم انتخاب رئيس بعد 9 أشهر على انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون هو نتيجة للواقع السياسي الذي يحول دون حلّ أزمة حاكمية مصرف لبنان بسلاسة ووفق القانون من دون أن تتمخّض عن كارثة جديدة من جرّاء المزيد من انهيار الليرة والتخبّط المالي والاقتصادي.
إنّ منطق الفيتوات الطائفية الذي يحول دون انتخاب رئيس جديد هو المنطق نفسه الذي يخلق الأزمة في حاكمية المصرف المركزي، باعتبار أنّ أحكام القانون في تسيير أعمال المصرف المركزي تخضع للاعتبارات الطائفية الضيّقة لا لتلك التي تتعلّق بميثاق العيش المشترك الذي تنصّ عليه مقدّمة الدستور على قاعدة أن لا شرعية لأيّ سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك. فالقواعد الطائفية للّعبة السياسية أصبحت أقوى من القانون والدستور ومعطِّلة للدولة نفسها، وهو ما يحتّم إعادة النظر في هذه القواعد ابتداءً من لحظة انتخاب رئيس جديد الذي يجب أن يشكّل الخطوة الأولى للخروج على قواعد اللعبة الحالية لا اعترافاً بها وتكريساً لها باعتبار أنّ الرئيس نفسه هو من إنتاجها.

هذا هو التناقض الذي لا يمكن توقّع حلّ للأزمة من دون حلّه. وهذا هو المعنى الإصلاحي الحقيقي للانتخابات الرئاسية هذه المرّة، بعدما أدّت قواعد اللعبة القديمة إلى إنهيار الدولة وضرب أسس العقد الاجتماعي بينها وبين المجتمع.

اختلال المسؤوليّة

والحال هذه ماذا يعني رفض نائب حاكم المصرف المركزي وسيم منصوري أن يتسلّم مهامّ سلامة المنتهية ولايته لأنّ ذلك يحمّل الطائفة الشيعية وزر الانهيار المالي؟ فكيف يمكن أن تتحوّل المسؤولية الفردية لموظّف في الإدارة العامّة مسؤولية لطائفته؟ هذا بغضّ النظر عن حقيقة المسؤوليات وتوزّعها في إدارة المصرف المركزي.
الاعتياد على هذه اللغة وهذه الممارسة يا محلاه الاعتياد على “الاستقرار الخادع”. بل إنّ هاتين اللغة والممارسة هما جوهر “الاستقرار الخادع”، إذ إنّهما ينسفان منطق الإدارة والدولة برمّته قبل أن يكونا عائقاً أمام إصلاحهما.
لا شكّ أنّ أزمة الرئاسة سبقت أزمة الحاكمية في الدلالة على العطب البنيوي في قواعد اللعبة السياسية باعتبار أنّ تمادي الفراغ الرئاسي هو نتيجة غلبة الفيتوات الطائفية على الدستور والمصلحة الوطنية، خصوصاً عندما يكون فيتو الثنائي الشيعي مقروناً بقدرة تنفيذية، أي بقدرة على فرض التعطيل وتصويره حقّاً دستورياً وقانونياً، بينما لا يتمّ القبول بحكم القانون في تسيير إدارة المصرف المركزي لأنّ تطبيقه يرتّب، بحسب الثنائي، مسؤولية على الطائفة الشيعية.

واقع دراماتيكيّ

في المقابل يأخذ الفيتو المسيحي على تعيين بديل من سلامة، باعتبار أنّ هذا التعيين يتجاوز حدود تصريف الأعمال للحكومة في ظلّ الفراغ الرئاسي، معنى سوريالياً كما لو أنّ الفراغ الرئاسي مؤامرة على المسيحيين بينما ساهمت قواهم السياسية، وإن بتفاوت، في إنتاج قواعد اللعبة التي تحول كلّ مرّة دون انتخاب رئيس وفق الآليّات الدستورية المتّبعة، ولا سيّما بعد سابقة الفراغ لسنتين ونصف سنة في سدّة الرئاسة توفيراً لشروط انتخاب الرئيس ميشال عون.
هذا الواقع الدراماتيكي الذي يتجاوز في سلبيّاته ومخاطره معنى “الاستقرار الخادع”، يدفع إلى التفكير في مستقبل لبنان الدولة والمجتمع، ما دامت القواعد الطائفية للّعبة السياسية تحول أكثر فأكثر دون إتمام بديهيّات الدولة لجهة استمرارية المرفق العامّ بما يوفّر مصلحة المواطنين. وهذا قبل الحديث عن الإصلاحات التي يتغنّى بها أهل السياسة التقليديون والتغييريون ومعهم وجوه المجتمع المدني و”الثورة”، حتّى كاد هذا التّغنّي يصبح صكّ براءة لهؤلاء جميعاً ممّا آلت إليه أحوال البلاد.

صكّ براءة

لذلك كلّه ليست الأزمة في مصرف لبنان أزمة جانبية وعرضية، بل هي تجسّد عمق الأزمة اللبنانية بأعراضها كلّها. فبعد أربع سنوات من الانهيار المتمادي بتبعاته الكارثية على حياة غالبية اللبنانيين لم تُحمَّل مسؤولية قانونية لأحد عمّا حصل، لا في المصرف المركزي ولا في المصارف ولا في الدولة ككلّ.
أمّا الآن فيدور كباش طائفي سياسي على كيفية إدارة “الفراغ” في حاكمية المصرف المركزي وكأنّ شيئاً لم يحصل. وهذا كلّه بمنزلة صكّ براءة من المجتمع لأركان الحكم بدلاً من أن تكون الكارثة المحقّقة إدانة مجتمعية لهم. فتقاعس المجتمع عن الدفاع عن مصالحه الحقيقية منذ بدء الأزمة مكّن أهل الحكم من تدوير أنفسهم ومعهم قواعد اللعبة القديمة ضدّ مصلحة المجتمع نفسه الذي ينتظر الآن انهياراً جديداً فوق رأسه من دون أن يحرّك ساكناً.

لذلك يبقى كلّ الحديث عن الإصلاح السياسي والاقتصادي أثراً بعد عين ما دامت دوافع هذا الإصلاح لا تصدر عن ديناميات مجتمعية فاعلة ومؤثّرة في الواقع السياسي. وهنا المكمن الحقيقي للأزمة اللبنانية العميقة التي تأخذ البلد أكثر فأكثر نحو مصائر مجهولة. فبعدما كان الطموح فصل الدين عن الدولة مع ما يحمله ذلك من تطوير للدولة والمجتمع، أصبح الطموح الآن فصل الفيتوات الطائفية عن الإدارة العامّة لتسييرها بالحدّ الأدنى، وهذا نكوصٌ ما بعده نكوص.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock