“ثعلب الدبلوماسية المكوكية” رحل تاركاً أميركا يتيمة

لبنى عويضة- خاص الرقيب:
“مجرم حرب”، “عملاق السياسة”، “ثعلب الدبلوماسية الأميركية”… والعديد من الألقاب التي رافقته طيلة حياته، إنه “هنري كيسنجر”، وزير خارجية أميركا السابق الذي رحل مسا 29 تشرين الثاني 2023 عن عمر يناهز الــ100 عام، وفقاً لما أعلنته مؤسسته صباح اليوم.
رحل أستاذ جامعة هارفارد ومن كان يهندس السياسات الأميركية سابقاً، والتي باتت ركيزة السياسة المعتمدة لغاية اليوم، إضافة لإدارته ملفات حساسة كثيرة، من أبرزها الحرب الباردة، حرب فيتنام، والسلام بين مصر وإسرائيل.
هذا السياسي الأميركي- الألماني- اليهودي الأصل، حصل على جائزة نوبل للسلام، إذ قام كيسنجر بالتفاوض لخروج أميركا من حرب الفيتنام الكارثية، بصفته كبير مساعدي الرئيس ريتشارد نيكسون في السياسة الخارجية.
وكان كيسنجر أيضاً العقل المدبر لسياسة الانفراج التي أدت إلى ذوبان الجليد في الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي، وساعد في تحطيم السور الدبلوماسي العظيم الذي كان يحيط بالصين الشيوعية لمدة عقدين ونصف من الزمن.
أما الاختبار الأدق لسياسته واللحظة الحاسمة كانت إثر تهديد وجود الكيان الاسرائيلي عقب حربه مع مصر في 4 أكتوبر 1973، واشتعلت مواجهات مع الاتحاد السوفيتي، كما قامت السعودية وغيرها من المصدرين للنفط بفرض حظر نفطي أدى لشلل تدفق الوقود إلى العالم.
وأدت دبلوماسيته المكوكية بعد حرب 1973 لاستقرار العلاقات بين الإحتلال وبعض الدول المحيطة به، إذ تجدر الإشارة إلى معرفته الكبيرة لطرفي النزاع ومهارته في مخاطبة الطرفين بطريقة توحي لهما بأخذ مصالحهما وأهدافهما في الحسبان، إضافة لأنه ساهم في دخول قوات الردع السورية إلى لبنان في حزيران 1976 عقب إندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، ووصف حكم “نظام الأسد” في سوريا بأنه يتمته بـــ”روح المسؤولية”، وساعد في تثبيت هذا الحكم.
من اللافت أنه ولاعتبارات عدة لا يعد كيسنجر سياسياً بسيطاً، بل كان ثعلباً ماكراً وشخصية كبيرة ومؤثرة حتى بعد مغادرته لمنصب وزير الخارجية الأميركية، فهذا السياسي المخضرم لم يعتزل يوماً العمل السياسي ولم يخلد للراحة، لا بل أنه التزم بنشاطه وبدوره الدبلوماسي عبر إنشاء شركته الاستشارية الخاصة، حتى أن نشاطاته وزياراته لم تنتهِ إلى رحيله، إذ قام بزيارة للصين في تموز من هذا العام، وبما أنه كان مستشاراً للأمن القومي ووزير الخارجية الأميركية، فقد مارس مستوى من السيطرة على السياسة الأميركية لا يضاهيها أي شخص مهما علا منصبه باستثناء الرئيس، وفقاً لما قالته صحيفة “واشنطن بوست”.
من بين التناقضات الكثيرة في شخصية هذا السياسي الأميركي الدولي، أنه اتُهِم بتدبير انقلابات في تشيلي عام 1973 وفي قبرص عام 1974 وفي قصف كمبوديا في عام 1969 وغزو أراضيها في عام 1970، وبالتورط في أحداث دولية دامية أخرى. ومع ذلك، حاز على جائزة نوبل للسلام في عام 1973، مناصفة مع رئيس وفد المفاوضات الفيتنامي لو دوك ثو. كانت تلك الجائزة بمثابة مكافأة لكيسنجر على المفاوضات السرية التي أدت إلى اتفاق باريس في عام 1973، والذي وضع حدًا للتدخل العسكري الأمريكي الطويل والدموي في فيتنام.
من جهة أخرى، على الرغم من شهرته كسياسي ماكر، إلا أنه كان يقر بمكانة روسيا ويحذّر من مغبة تجاهل مصالحها، ومن ذلك قوله: “روسيا بلد عظيم وله تاريخ عظيم. من الصعب بالنسبة لي أن أتخيل نظامًا دوليًا لا تكون فيه روسيا من بين اللاعبين الرئيسيين”.
أما أشهر ما قاله عن أميركا هو: “أن تكون عدواً للولايات المتحدة أمر خطير، لكن كونك صديقاً فذلك أمر مميت”.
كيسنجر، السياسي الذي لطالما كان بمثابة الضوء الساطع في السياسة الأميركية رحل وترك الدبلوماسية الأميركية تتخبط، إضافة إلى إرث سياسي عميق، بعدما غيّر تاريخ العالم من جهة، وتاريخ العلاقات الدولية والسياسية الأميركية، وتحديداً بعد إخراجها بجهوده من عدة مجالات، وكان أخطرها حرب فيتنام، وهو من وضع حداً للتوترات الأميركية مع الاتحاد السوفيتي، وفتح العلاقات الدبلوماسية مع الصين… ومع غيابه ستطوي أميركا صفحة “ثعلب السياسة” الذي لن يأتِ كمكره في أي مكانٍ وزمان.