حروب الذاكرة في لبنان… روايات متناقضة ووطن ضائع

بقلم: لبنى عويضة…
خاص: جريدة الرقيب الالكترونية
الذكريات والذاكرة… ليست مجرد تاريخ يُكتب أو حكاية تُروى في لبنان، بل هي ميدان معركة تتصارع فيه القوى السياسية والطائفية. كل طرف يسعى إلى فرض روايته التاريخية، إما لتلميع صورته أو لتغيير حقائق قد تكشف دوره.
وبين الروايات المتناقضة، يجد اللبناني نفسه تائهًا بين ذاكرة مجتزأة ونسيان مقصود.
التاريخ كأداة سياسية
منذ نهاية الحرب الأهلية (1975-1990)، لم يُكتب تاريخ موحد عن تلك الحقبة المظلمة. يتحدث البعض عن المصالحات، لكن الحقائق المدفونة تفوق ما تم الكشف عنه.
على سبيل المثال: مجزرة تل الزعتر (1976)، التي راح ضحيتها آلاف اللبنانيين والفلسطينيين، تُذكر في روايات بعض الأطراف بينما تُطمس تمامًا في أخرى. كذلك، مجزرة صبرا وشاتيلا (1982) لا تزال نقطة خلاف حادة، حيث يُتبادل الاتهام بين من يتحمل المسؤولية المباشرة ومن يدّعي أنه ضحية للسياسات الدولية.
الذاكرة في المناهج الدراسية
هل سألت نفسك يومًا لماذا لا نجد فصلاً عن الحرب الأهلية اللبنانية في كتب التاريخ المدرسية؟
السبب واضح: غياب التوافق بين الأطراف السياسية على سرد وقائع تلك الفترة.
على سبيل المثال: اتفاق الطائف (1989)، الذي يُعتبر محطة فاصلة في إنهاء الحرب، يُقدم في بعض الخطابات كإنجاز وطني، بينما يراه آخرون تسوية قسرية. هذا الغياب لا يعني سوى أمر واحد: أن الأجيال القادمة ستعيش على روايات متناقضة، تُنقل شفهيًا دون توثيق أو نقد.
الأدوات المستخدمة في حروب الذاكرة
من الإعلام إلى النصب التذكارية، تُستغل كل وسيلة لإبقاء رواية واحدة على قيد الحياة وطمس أخرى.
فنجد نصبًا تذكاريًا يُمجّد “الشهيد”، وفيلمًا وثائقيًا يُدين “الخائن”، وحتى الأغاني الوطنية تُستخدم لزرع فكرة أو طمس أخرى.
على سبيل المثال: يُثار الجدل حول الاحتفاء بـ13 نيسان، الذي يُذكر رسميًا كذكرى لانطلاق الحرب الأهلية اللبنانية. البعض يراه مناسبة لاستذكار معاناة الشعب ودروس الماضي، بينما يحاول آخرون تحميل طرف واحد المسؤولية، ما يحوّل المناسبة إلى ساحة للصراع على المعنى، بدلاً من أخذ العبرة والتوحد حول التاريخ.
ذاكرة الجنوب نموذجًا
الجنوب اللبناني، الذي عانى من الاحتلال الإسرائيلي لسنوات، يُقدم مثالاً صارخًا عن التنافس بين الروايات.
“يوم التحرير” (عام 2000)، يحتفي به البعض كإنجاز وطني، بينما يراه آخرون بداية لمرحلة جديدة من الهيمنة الداخلية. كذلك، اتفاق نيسان (1996)، الذي جاء بعد عدوان “عناقيد الغضب”، يُروى كمكسب سياسي، لكنه يحمل أيضًا ذكرى مريرة لضحايا المجازر التي دُفنت في قانا.
نسيان مقصود أم ذاكرة مشوهة؟
يبقى السؤال: هل يمكن بناء ذاكرة وطنية مشتركة تُنصف الجميع؟ أم أن النسيان المقصود والمدفوع بمصالح سياسية سيظل سيد الموقف؟
بينما تسعى دول أخرى إلى المصالحة عبر مواجهة ماضيها بشجاعة، يبدو أن لبنان اختار دفن الحقيقة.
ولا يمكن لوطن أن ينهض على أنقاض الماضي أو على أساس متين من النسيان الانتقائي أو التزييف. فالطريق إلى النهوض يبدأ بكشف الحقائق مهما كانت موجعة، لأن ذاكرة متصالحة مع ذاتها هي الشرط الأول لتحقيق سلام مستدام.
ذاكرة مشوهة ووطن بلا مستقبل
الحقيقة المرّة هي أن حروب الذاكرة ليست مجرد صراع على الماضي، بل هي حرب مستمرة على المستقبل. فمن يملك الرواية يملك السلطة، ومن يُسكت الأصوات يطمس الحقوق.
في لبنان، نحن لا نعيش في وطن يتذكر كي يتعلم، بل في وطن ينسى كي يكرر الأخطاء ذاتها. وبين صفحات التاريخ المحترقة، تبقى حقيقة واحدة: لا يمكن بناء وطن على أطلال ذاكرة مشوهة، بل على مواجهة شجاعة مع الماضي مهما كان موجعًا.
والسؤال الذي يبقى: هل سنختار المصالحة والمحاسبة أم أننا محكومون بأن نكون سجناء روايات مزيفة إلى الأبد؟