عودة الخليج إلى بيروت: رسائل سياسية وآمال اقتصادية

بقلم: لبنى عويضة…
خاص جريدة الرقيب الالكترونية
شهدت الأسابيع الأخيرة تحولات هامة في العلاقة بين لبنان ودول الخليج. تحولات قد تبدو في ظاهرها تقنية أو بروتوكولية، لكنها تحمل في طياتها إشارات سياسية واقتصادية بالغة الأهمية. من عودة السفير الإماراتي إلى تسهيلات في منح التأشيرات وقرار رفع حظر السفر إلى لبنان ابتداءً من 7 أيار/مايو، كل هذه المؤشرات تعيد طرح السؤال: هل تعود دول الخليج إلى لبنان؟ وإذا عادت، فبأي شروط وأي دور تنتظره من الدولة اللبنانية؟
مع التغييرات الإقليمية التي طرأت مؤخرًا، عاد لبنان إلى دائرة الاهتمام الخليجي ولو بحذر، لكن هذا الاهتمام لا يعني بالضرورة العودة بلا شروط. لا يُترجم هذا التوجه تلقائيًا إلى انتعاش اقتصادي فوري، بل يفتح الباب على مرحلة اختبار ونوايا متبادلة.
خلفية التوتر: كيف ابتعد الخليج؟
لم تكن العلاقة بين لبنان ودول الخليج، وعلى رأسها السعودية والإمارات، دائمًا على هذا القدر من الفتور. بل كانت هذه الدول تشكل لعقود طويلة رئة سياسية واقتصادية للبنان: من دعم مالي مباشر للدولة، إلى استثمارات في القطاعات الإنتاجية والعقارية، وصولًا إلى ملايين الدولارات التي كان يضخّها السائح الخليجي سنويًا في الأسواق اللبنانية.
لكن منذ عام 2016، بدأت العلاقة بين لبنان ودول الخليج تشهد تدهورًا تدريجيًا. الأسباب متعددة، لكنها تتركز حول عامل رئيسي: تزايد نفوذ “حزب الله” في قلب القرار اللبناني، ما أثر على استقرار البلاد وأدى إلى تصاعد التوتر مع دول الخليج، سواء عبر الخطاب الهجومي أو التورط في صراعات إقليمية تمس الأمن الخليجي، من اليمن إلى سوريا. تزامن ذلك مع تصاعد الأزمة السياسية الداخلية في لبنان، وتكرار حالات الفشل الرسمي في تقديم أي ضمانات فعلية تعكس حياد الدولة أو نأيها بالنفس.
بلغ التوتر ذروته في خريف 2021، حين أعلنت السعودية والإمارات والبحرين والكويت سحب سفرائها من بيروت، بعد تصريحات لوزير الإعلام اللبناني آنذاك، جورج قرداحي، اعتُبرت مهينة للتحالف العربي في اليمن. رافق ذلك حظر على المنتجات اللبنانية، وتحذيرات صارمة لرعايا تلك الدول من السفر إلى لبنان. منذ ذلك الحين، دخلت العلاقات في جمود طويل، لم تُكسر حدّته سوى بمبادرات خجولة لم ترقَ إلى مستوى المصالحة. حتى جاءت السنة الحالية، لتعيد هذه العلاقة إلى الواجهة، ضمن سياق إقليمي ودولي متغير.
المؤشرات الجديدة: ماذا تغيّر؟
التحولات التي نشهدها اليوم لا تأتي من فراغ. كانت الإمارات أول من كسر الجمود، حيث أعادت السفير ورفعت الحظر عن سفر مواطنيها إلى لبنان. رافق ذلك تسهيلات في منح التأشيرات للبنانيين. أما السعودية، فمن جهتها لم ترفع الحظر رسميًا، لكنها أعادت فتح قنوات التواصل المباشر، وأبدت استعدادًا لمراجعة ملف التصدير والسفر ضمن خطوات تدريجية. هذه الإشارات الإيجابية تؤكد أهمية الانخراط بدلًا من القطيعة في الساحة اللبنانية، وذلك للمساهمة في استعادة التوازن، بدلاً من ترك الساحة لفراغات قد تملؤها أطراف أخرى.
ويبدو أن زيارة الرئيس جوزاف عون إلى الرياض وأبوظبي لم تكن شكلية، بل جاءت كترجمة لمساعٍ خليجية لإعادة التموضع في لبنان في لحظة إقليمية تبدو أكثر براغماتية مما سبق.
هل ينعش الخليج لبنان؟
عودة الخليج ليست تفصيلًا بالنسبة للاقتصاد اللبناني. المغتربون اللبنانيون في الخليج يشكلون صمام أمان ورافعة مالية عبر التحويلات، والسياحة الخليجية كانت تاريخيًا من أكبر مصادر العملات الصعبة. علاوة على ذلك، تمتلك الاستثمارات الخليجية سجلًا طويلًا في دعم البنى التحتية، والتعليم، وحتى البلديات.
رفع الحظر الإماراتي، إذا ما ترجم بحجوزات سياحية حقيقية هذا الصيف، قد يشكل أول “نفس” حقيقي يدخل في القطاع السياحي المنهك. لكن الفائدة لا تقف هنا، بل تمتد إلى قطاعات النقل، والخدمات، والمواد الغذائية، والمصارف. بشرط تأمين بيئة مستقرة وآمنة. مع ذلك، فإن هذه الفرصة لا تكفي وحدها لإنقاذ الاقتصاد. المطلوب ليس فقط عودة السائح الخليجي، بل خلق مناخ استثماري طويل الأمد. وهذا لن يتحقق من دون إصلاحات فعلية في القضاء، والإدارة، والمالية العامة.
هل الخليج يراهن على التغيير؟
التوجه الخليجي لا يخلو من حسابات سياسية. يبدو أن الرهان هو على دور رئاسي جديد يستطيع مخاطبة العواصم العربية بلغة عقلانية، وتطمينها بأن لبنان لن يكون ساحة ضدها. وهذا يضع رئيس الجمهورية في موقع اختبار. في المقابل، من المبكر الجزم بأن الخليج “يصالح” لبنان بلا مقابل. المرجح أن هناك تفاهمات غير مُعلنة، قد تكون مشروطة بإعادة ضبط التوازن السياسي الداخلي، أو على الأقل كبح اندفاعات بعض الجهات السياسية في الخطاب والممارسة.
الأكيد أن الخليج لا يعود بدافع الحنين، بل ضمن رؤية استراتيجية لموقع لبنان على الخريطة الجديدة للشرق الأوسط. وبالتالي، أي خطأ لبناني في قراءة هذه اللحظة، قد يعيد الأمور إلى نقطة الصفر.
فرصة معلقة على حسن الإدارة
ما نشهده اليوم هو نافذة لا أكثر. عودة الخليج ليست مكافأة بل فرصة، وهي مرهونة ليس فقط بتبدل المزاج الإقليمي، بل بقدرة لبنان على إثبات أنه لا يزال قادرًا على أن يكون شريكًا، لا عبئًا. الكرة اليوم في ملعب الدولة اللبنانية: هل تلتقط اللحظة وتبني عليها من خلال إصلاحات تهدئة داخلية، واستثمار الثقة؟ أم تكتفي بالاحتفال بالمؤشرات من دون معالجة الأسباب التي أدت إلى القطيعة؟
بين المراهنة والانفراج، تقف البلاد على حافة مفصل جديد لن يتكرر كثيرًا.