وعن شبعا وأخواتها: جهل أم تجاهل؟
كتب جان عزيز في “أساس ميديا”
هل المطلوب ترسيم الحدود بين لبنان وإسرائيل؟
كيف تُحسم مسألة الحدود في مزارع شبعا فيما هي محتلّة؟
وهل هذه منطقة لبنانيّة أم سوريّة؟ وما علاقة إسرائيل أصلاً بذلك؟؟؟
نماذج من تساؤلات كثيرة تخرج إلى الاستهلاك والعلك الإعلامي، كلّما طُرح موضوع الحدود اللبنانية، مع “دولة إسرائيل” أو حتى مع سوريا. إنّها تساؤلات تؤدّي إلى تضليل وتشويش وتعمية، مستفيدة من الدمج المقصود أو الغبيّ بين مفاهيم قانونية وعلمية مختلفة.
في قاموس القانون الدولي المتعلّق بقضايا الحدود، عدّة مفاهيم متمايزة. لكلّ منها نتيجة فعليّة معيّنة، وينبثق منها مقتضى قانونيّ مختلف.
أوّل المفاهيم القانونية لحسم قضية حدوديّة ما هو مفهوم “تعريف” الحدود أو Definition. وهي المرحلة التي يكفي لإنجازها، قلم وورقة لا غير، أو أيّ لوحة مفاتيح كاتبة في الزمن الحديث، بحيث يقوم “التعريف” بالوصف اللغويّ الإنشائي لخطّ الحدود. أبسط مثال على مفهوم “التعريف” لحدود دولة ما، أو للحدود بين دولتين أو أكثر، هو صياغة المادّة الأولى من الدستور اللبناني الحالي. فهي نصّت على “التعريف” بحدود لبنان كالتالي:
“أمّا حدوده فهي التي تحدّه حاليّاً·
شمالاً: من مصبّ النهر الكبير على خطّ يرافق مجرى النهر إلى نقطة اجتماعه بوادي خالد الصابّ فيه على علوّ جسر القمر·
شرقاً: خط القمّة الفاصل بين وادي خالد ووادي نهر العاصي (أورنت) مارّاً بقرى معيصرة ـ حربعاتة ـ هيت ـ ابش ـ فيصان على علوّ قريتَي برينا ومطربا، وهذا الخطّ يتابع حدود قضاء بعلبك الشمالية من الجهة الشمالية الشرقية والجهة الجنوبية الشرقية ثمّ حدود أقضية بعلبك والبقاع وحاصبيا وراشيا الشرقية·
جنوباً: حدود قضاءَيْ صور ومرجعيون الجنوبية الحالية·
غرباً: البحر المتوسّط”·
هذا هو “التعريف”. صياغة لغوية مفصّلة إلى حدّ ما، مكتوبة على ورقة لا غير.
بعد تعريف الحدود، ثمّة مرحلة أكثر تطوّراً عمليّاً، وأكثر دقّة علميّاً وقانونياً، هي مرحلة “التحديد”، أو Delimitation. أمّا المطلوب لإنجازها فخريطة وخبير طوبوغرافي وحسب. وهي المرحلة التي تنقل الحدود من الورقة إلى خريطة. فيصبح “التعريف” اللغوي الوصفي “تحديداً” بواسطة خطوط واضحة على خريطة طوبوغرافية.
الترسيم: الخرائط… والقانون
هنا تأتي المرحلة الثالثة، أو “الترسيم”، أي Demarcation. والمقصود به هو نقل الحدود من الورقة والخريطة، إلى الأرض والصخر والتراب. وذلك عبر إسقاط خطوط الخرائط على البرّ، وتحويل العمل الورقيّ إلى عمل جغرافي فعليّ، فيذهب الخبراء المختصّون ويضعون علامات الترسيم في النقاط المفصليّة التي رسمتها خطوط الخرائط. وهي ما اشتهرت لبنانياً باسم “القلقوز”. وهي كناية عن شقعة حجارة فوق بعضها، على مستوى ترسيم الحدود الفردية أو الشخصية، أو مثل علامات الحدود التي نفّذت اتفاق بوليه – نيوكومب على الأرض بين لبنان وفلسطين وسوريا سنة 1923.
بعد كلّ ما سبق، تبقى مرحلة أخيرة على مستوى قوننة الحدود أو تأكيدها على مستوى القانون والشرعية الدوليَّين. وهي مرحلة “تثبيت” الحدود، أو Fixation. وهي تعني التسجيل الرسمي لدى الجهات الدولية أو الأممية المعنيّة بموضوع الحدود.
في حالة الحدود بين الدول، يعني “التثبيت” أن تنجز دولتان متجاورتان المراحل السابقة، أو المرحلتين الأوليَيْن منها على الأقلّ، “التعريف” و”التحديد”، ثمّ ترسلان الوثائق المبرمة من قبل سلطاتهما، مرفقة بنصوص “التعريف” وخرائط “التحديد”، إلى الأمم المتحدة، مع طلب تسجيل هذه الوثائق ونشرها أمميّاً، بحسب المادّة 102 من ميثاق الأمم المتحدة. وهي المادّة التي تنصّ بشكل صريح، في فقرتها الأولى، على أنّ “كلّ معاهدة دولية وكلّ اتّفاق دوليّ يعقدهما أيّ عضو من أعضاء “الأمم المتحدة” بعد العمل بهما، يجب أن يُسجَّلا في أمانة الهيئة وأن تقوم بنشرهما بأسرع ما يمكن”.
أمّا لماذا التسجيل الأمميّ وطلب النشر؟
فلأنّه بحسب الفقرة الثانية من المادّة 102 نفسها، “ليس لأيّ طرف في معاهدة أو اتفاق دولي، لم يسجَّلا وفقاً للفقرة الأولى من هذه المادّة، أن يتمسّك بتلك المعاهدة أو ذلك الاتفاق أمام أيّ فرع من فروع الأمم المتحدة.” وبالتالي فأيّ ترتيب ثنائي أو شفهي أو خطابي أو شعري بين دولتين حول وضع الحدود بينهما، لا معنى له أممياً، ما لم يتبع الآليّة المذكورة.
وفق هذه المراحل الأربع تحافظ أيّ دولة على حدودها بالمفهوم الدولي ووفق منطق القانون الدولي والشرعية الدولية.
الجدير ذكره، وهو الأهمّ أيضاً، أنّ الأمم المتحدة كمنظّمة دولية ليست معنيّة بالعمل على ترسيم الحدود بين أيّ دولتين عضوتين فيها. والأمر ليس من وظائفها ولا من اختصاصها. وهو ما لم يحصل إلا في حالة يتيمة لأنّها اعتُبرت يومها حالة خاصّة مرتبطة بالأمن والسلم الدوليَّين. وبالتالي اعتُبر مجلس الأمن معنيّاً بها. وهي حالة الحدود الكويتية العراقية التي كانت موضع قرار غير مسبوق من قبل مجلس الأمن نظراً لظروف سياسية دولية وعسكرية فعليّة معروفة. وهو القرار 687، تاريخ 1991، الذي اتُّخذ تحت الفصل السابع، أي حمل الطابع الملزِم، وقضى بترسيم الحدود بين البلدين، وذلك بعد اجتياح صدّام حسين للكويت، وبعد إخراجه منها إثر حرب الخليج الأولى.
مزارع شبعا لبنانية؟
بناء عليه، هذا بعضٌ من زجل المسؤولين اللبنانيين أو دجلهم حيال الحدود اللبنانية:
1- هل الحدود اللبنانية بحاجة إلى ترسيم؟ طبعاً لا. فهي معرّفة ومحدّدة ومرسّمة منذ اتفاق بوليه نيوكومب سنة 1923. كلّ ما قد تحتاج إليه في نقاط معيّنة هو إعادة تظهير علامات الترسيم على الأرض، حيث تمّ تخريبها. وذلك استناداً إلى خرائط التحديد المثبتة دوليّاً وأممياً، وما يقتضي تحديثه منها.
2- هل مزارع شبعا لبنانية، أمميّاً وبحسب تصاريح حكّام بيروت ودمشق، منذ تحرير سنة 2000 حتى اليوم؟ طبعاً لا. فالمزارع بمفهوم القانون الدولي، ووفق منطق المادة 102 من شرعة الأمم المتحدة، هي منطقة متنازَع عليها، أو غير مثبتة الانتماء الدولي، بمعنى أنّها ليست ولم تكن يوماً منذ نشوء الأمم المتحدة سنة 1945، موضوع مراسلة تثبيت من قبل أيّ من الدول المعنيّة بها. فما تمّ تسجيل مراسلة كهذه لدى الأمم المتحدة، ولا طُلب نشرها لتصبح اتفاقية دولية معترفاً بها من قبل المنظمة الأممية.
وهذا، للمناسبة، ما حرصت إسرائيل مثلاً على تحقيقه بموضوع الترسيم البحري مع لبنان. إذ بادرت إلى تسجيله لدى الأمم المتحدة وطلب نشره كاتفاقية حدود دولية بين لبنان وإسرائيل.
3- هل حسم مسألة لبنانيّة مزارع شبعا، ممكن في ظلّ احتلالها من قبل إسرائيل؟ طبعاً. وهو ممكن قانونياً، وضروري وطنياً. يكفي أن يجتمع الطرفان اللبناني والسوري، وأن ينجزا المرحلتين الأوليَيْن من حسم هذه المسألة، أي “تعريف” الحدود بينهما في تلك المنطقة، و”تحديد” الحدود على خرائط رسمية فقط، ثمّ يتمّ إقرار هذا الاتفاق لدى كلّ من سلطات البلدين. بعدها يمكن للبنان بمفرده، إذا شاء، أن يبادر إلى تثبيت تلك الحدود لدى الأمم المتحدة، وطلب نشرها، بحيث تصير مزارع شبعا لبنانية دولياً. أمّا كلّ كلام عن استحالة ذلك بذريعة احتلال إسرائيل لتلك المنطقة، هو لغوٌ محصور بين الجهل والتجاهل.
4- هل يمكن لخطوة كهذه أن تؤثّر على وضع تلك المنطقة، أم تظلّ حبراً على ورق؟
بالتأكيد خطوة كهذه ستشكّل إحراجاً كبيراً للعدوّ الإسرائيلي، الذي سيكون عندها دوليّاً في وضع مَن لم ينفّذ القرار 425 حتى، بعد تأكيد لبنانية المزارع أممياً، وهو ما يجعله تحت ضغوط سياسية ودبلوماسية أكبر بكثير من تلك التي يتعرّض لها في وضعه الراهن.
5- هل لتطوّر من هذا النوع أن ينعكس سلباً على لبنان في أيّ مجال؟
قطعاً لا. لكنّه قد يخلق وضعية تذكِّر بإشكالية مواقف النظام السوري وتابعه اللبناني سنة 2000، يوم اعتُبر قرار جلاء جيش الاحتلال الإسرائيلي عن جنوب لبنان، نتيجة ضربات المقاومة اللبنانية، “مؤامرة صهيونية تستهدف وحدة المسار والمصير بين الشعب الواحد في بلدَيْ الحزب الواحد”.
إنّها إشكالية يُفترض أن يكون كلّ مَن في سوريا ولبنان قد تخطّوها وتعلّموا من مآسيها واعتبروا من كوارثها…